نَقْد الشّعر في التّذكرة الحَمْدُونية
" ابن حَمْدون في ميزان النّقد "
تحتوي موسوعة
ابن حمدون على شتى أنواع المعرفة الأدبية التي عرفت في عصره، وتعد أمهات الكتب
قبله مصدراً له، مثل كتاب عيون الأخبار لابن قتيبة الدينوري، والعقد الفريد لابن
عبد ربه، ويفتتح الحمدوني كل باب من أبواب كتابه الخمسين - ومجلداته التسع كما
حققها المرحوم إحسان عباس وأخوه بكر عباس- بمقدمة يهتم بألفاظها ورويها، وبدأ أبواب
موسوعته بكلام
الرسول وآله والصحابة والتابعين، وختمها
بالنوادر والنكت.
ومن مقدماته ما
افتتح به حديثه فصلة (النوادر في التهاني)، فقال(1)
:
" فالحمد لله الذي جعل ما جرت به الأقدار
من الأمر الرائع ظاهره، الوجل لوقعه ناظره، لعنايته - جلت عظمته - عنواناً، وعلى
دوام نعمه دليلاً واضحاً وبرهاناً. وإليه الرغبة في أن يجعل الديار وساكنيها،
والنفائس في أقاصي الدنيا وأدانيها، لشريف الحوزة التي بها صلاح العالم فداء،
وعنها للمكروه وقاء، فلكل حادث مع دوام هذه الأيام الزاهرة خلل، وكل غمر من نوائب
الدهر ما دافع لطف الله عنها وشل " .
ومن أطول مقدمات فصوله، مقدمة الباب
الحادي والعشرين، من الجزء الخامس، وهو بعنوان ( في المودة والإخاء والمعاشرة
والاستزارة ) ، ويقول فيها : " الحمد لله جامع أهواء القلوب بعد شتاتها،
وواصل حبال المودة بعد بتاتها، الذي من علي المؤمنين بأن جعلهم بعد الفرقة
إخواناً، ووعدهم على التآلف مغفرة ورضواناً، وبعث رسوله من أكرم محتد وأطهر ميلاد،
فأطفأ ببعثته نيران الإحن والأحقاد؛ أرسله والكفر ممتد الرواق، والعرب قائمة حربها
على ساق، قد جبلت قلوبها على الافتراق، ودانت فيما بينها بالتباين والشقاق، فدعاهم
إلى منار الهدى، وأنقذهم من هوة الردى، لاءم بين نفوس أعيت من قبله على داعيها،
واستقاد بعد النفرة عاصي شاردها وآبيها، فجمعهم على المودة والصفاء، وأزال عنهم
كلفة الضغينة والشحناء، فأصبحوا بنعمة الله إخواناً، وعادوا بفضله بعد العداء
خلاناً، صلى الله عليه وعلى آله، صلاة تضاهي شرف مبعثه ومآله. المودة والإخاء سبب
للتآلف، والتآلف سبب القوة، والقوة حصن منيع وركن شديد، بها يمنع الضيم، ويدرك
الوتر، وتنال الرغائب، وتنجح المطالب. وقد امتن الله عز وجل على قوم وذكرهم نعمته
عندهم بأن جمع قلوبهم على الصفاء، وردها بعد الفرقة إلى الألفة والإخاء، فقال
تعالى
: " واذكروا
نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً " آل
عمران: 103، ووصف نعيم الجنة وما أعد فيها من الكرامة لأوليائه فكان منها أن جعلها
إخواناً على سرر متقابلين. قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله:" أكثروا من
الإخوان فإن ربكم حيي كريم يستحي أن يعذب عبده بين إخوانه " .
ويحتاج موضوع هذا الباب المهم المتشعب
المفيد كل هذه المقدمة. ولعله رمز في مقدمته لشيء من فساد ما يجري في عصره من
تفرقة ! خاصة وأنه بدأ بابه بالحديث عن سنه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- الإخاء
وندبه إليه إذ آخى بين أصحابه. وتبه ذلك بحديث مطول عن رواية زيد بن أبي أوفى حيث
قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده فقال: أين فلان بن فلان؟ فجعل
ينظر في وجوه أصحابه ويتفقدهم ويبعث إليهم حتى توافوا عنده، فلما توافوا عنده حمد
الله وأثنى عليه ثم قال: إني محدثكم حديثاً فاحفظوه وعوه، وحدثوا به من بعدكم. إن
الله عز وجل اصطفى من خلقه خلقاً يدخلهم الجنة ثم تلا " الله يصطفي من
الملائكة رسلاً ومن الناس " الحج: 75. وإني أصطفي منكم من أحب أن أصطفيه،
ومواخٍ بينكم كما آخى الله عز وجل بين ملائكته. قم يا أبا بكر فاجث بين يدي، فإن
لك عندي يداً، الله يجزيك بها، فلو كنت متخذاً خليلاً، لاتخذتك خليلاً، فأنت مني
بمنزلة قميصي من جسدي... وذكر الخبر كاملا دون توثيقه عمن ينقل !
و من مقدماته ذات الحس النقدي، مقدمة المجلد
السابع، من الباب الثاني والثلاثين
وهو بعنوان ( في شوارد الأمثال)، إذ قال : " وأمثال العرب كثير، وإن وقعت
عليها أشعارهم، ومن تلاهم من المخضرمين والمحدثين، لم يضبطها حصرٌ. وفي الأمثال
الخامل والنادر، والبعيد المغزى، والعقد المعنى، والجافي اللفظ. فاعتمدت في هذا
الباب على المشهور منها، وما جزلت ألفاظه، وسهلت معانيه، وحسن استعماله في عصرنا،
ولم يكن بعيداً من الملاءمة، فمن الأمثال: ألبس لكل حالةٍ لبوسها. واقتصدت فيما
أوردته في الأمثال النبوية، مع أن كلامه صلى الله عليه وسلم حكمةٌ، وأمثاله كثيرة،
وفيما لأوقعته عليها من الشعر. فإن الكتاب الذي هذه الأمثال بابٌ من أبوابه، قد
تضمن من كلامه صلى الله عليه وسلم، ومن الأشعار في كل أبوابه ما يقع شاهداً في
عموم المعاني والمقاصد، فلا حظ في تكريرها. وأضفت كل معنىً إلى ما يجانسه ويقاربه
لئلا تكثر الفصول فيضل المتأمل لها " .
ويكثر الحمدوني من أقوال الخليفة علي بن
أبي طالب – رضي الله عنه -، ومن ذلك في هذا الباب نقله عنه قوله : المودة قرابة
مستجدة.. ويحاول في كل باب أن يلتزم النقل عن الأقدم فالأقدم فيذكر أقول الأمويين
قبل العباسيين في اغلب ما نقل.
وكان الحمدوني يعنون فصول أبوابه، كما
يعنون أبوابه، ويضع عنوانا فرعيا، ومن ذلك عنوانه في الفصل الثالث من الجزء الرابع
بـ ( ما جاء من المراثي والتعازي )، ثم يعنون
بـ ( في الصغار والأطفال ).
ويبدأ هذا الفصل بخبر تعزية عبد
الله بن عباس عمر بن الخطاب رضي الله عنهم على بني له فقال:
عوضك الله منه ما
عوضه منك. وهذا الصبي هو الذي قال فيه عمر رضي الله عنه:
ريحانة أشمها، وعن
قريبٍ ولد بارٌ أو عدو حاضر.
ثم يتبع ذلك بقول علي بن عبيدة لرجل
يعزيه عن ابنه:
كان أبوك أصلك، وابنك
فرعك، فما بقاء شيء ذهب أصله ولم يبق فرعه؟
ثم يذكر قول الشاعر أبي الشغب ( دون
التعريف به ):
قد كان شغب لو أن الله عمره ... عزاً تزاد به في عزها مضـــر
فارقت شغباً وقد قوست من كبرٍ ... بئس الحليفان طول الحزن والكبر
ليت الجبال تداعت عند مصرعه ... دكاً فلم يبق من أركانها حجــر
ويبدأ ابن حمدون شواهده عن الموضوع
المتحدث عنه بالقرآن الكريم، فالحديث الشريف، فالشعر والنثر.. ولقد تلا أو سبق بعض
شواهده بعض النقد، كما خصص في كتابه حديثا عن قضايا نقدية قديمة بعينها وعنون لها
كما يلي (السرقات الشعرية، والنقد الانطباعي، وتوثيق الشعر، والشروح اللغوية)،
وكان أحيانا يذكر نقده هنا أو هناك لغاية في نفسه، سيجليها البحث بالأمثلة والنقد
على النقد. فهو أحيانا يبين صحة نسبة أبيات لقائلها، وأحيانا أخرى يفسر كلمات في
الشاهد، وأخرى يقدم رأيا نقديا في كاتب حجة في عصره، فيخالف أو يوافق أو يقف موقفا
محايدا دون تعليق... وهكذا مما سيلجه البحث.
كما يرد عند ابن حمدون منهجه في إتيانه
البيت أو الأبيات وأنه يأتي بها على ذوقه، كما يقول :
" قد أتيت من
هذه الأخبار والأشعار في هذا الباب وغيره بآخر قبل أول، وبأول بعد آخر، ولم ألزم
الترتيب في الشعراء وغيرهم، على قدر منازلهم وأعصارهم، لأني تبعت الخاطر فيما أمل،
وأصبحت عندما تذكرت أو نقلت لأبرأ من كدر الكلفة وظلامها، وليس في ذلك خللٌ يلحق
الغرض الذي أممته. فلا يظنه المتصفح وصماً، ولا يعده غباوةً ونقصاً، فالله تعالى
يحرسنا من جهل يطلق ألسنة الزارين، ويوقظنا من غفلة تنبه علنا لا نتبع الغاوين،
بمنه وسعة فضله " .
كما يرشد ابن حمدون القارئ إلى أنه ذكر
القصة أو البيت في مكان آخر ليطلع إليه دون أن يشير إلى ذلك المكان، من ذلك سنورد
أمثلة من الباب التاسع والعشرين المعنون ( في النسيب والغزل) .. ومنه ذكره للنابغة
الذبياني بيتا عن المتجردة زوجة النعمان بن المنذر في شعره، في قصيدة أولها:
أَمِن آل مَيَّةَ رائحٌ أو مغتدي ... عجلانَ ذا زادٍ وغيرَ
مُزَوَّدِ
وأنه وصف أعضاءها
وأفحش حتى قال:
وإذا طعنتَ طعنتَ في مستهدفٍ ... رابي المجسَّةِ بالعبيرِ
مُقَرْمَدِ
فقال ابن حمدون إن هذا البيت ليس وحيدا،
بل هي أبياتٌ وأنه قد كتبها في مكان آخر من كتابه.
وكان في الباب نفسه يختار من الأبيات ما
يتناسب مع القصة النقدية التي يريد تسجيلها، كما في قول الشاعر النميري في زينب
بنت يوسف أخت الحجاج بن يوسف، وكان يتعشقها، فامتنع عليها، فقال ابن حمدون : وهي
أبيات ذكرت ها هنا مختارها – منها قوله :
تضوَّعَ مسكاً بطنُ نعمانَ أن مَشَتْ ... به زبيبٌ في نسوةٍ
عطراتِ
فأصبح ما بين الهماءِ وجدوة ... إلى الماءِ ماءِ الجزعِ ذي العُشَراتِ
وكذا فعل في الباب نفسه لما قال : "
من طوال قصائد الغزل ومختارها قول كثير، وقد اقتصرت على بعضها ":
خــليليَّ هذا ربعُ عَزَّةَ فاعقلا ... قَلُوصَيْكما ثم انزلا
حيثُ حَلَّتِ
وما كنتُ أدري قبلَ عَزَّةَ ما البكا ... ولا موجعاتِ الحزنِ حتى تولَّتِ
وكذلك في قول
ابن حمدون عن قول أبي عبد الله بن الدمينة الخثعمي، أن أبياته من قصيدة مشهورة،
وقد توزع أكثرها، ونسبت أبيات منها إلى عدد من الشعراء، والمقصود الشعر لا شاعره،
فلذلك جمع المختار منها في مكان واحد، ومما جمعه له في الغزل:
أَحقاً
عباد الله أن لستُ وارداً ... ولا صادراً إلا علــيَّ رقيبُ
ولا زائراً فَرْداً ولا في جماعَةٍ ... من الناسِ إلا قيل أنت مريبُ
(1) ابن حمدون، محمد بن
الحسن بن محمد بن علي : التذكرة الحمدونية، تحقيق : إحسان عباس، و بكر عباس، دار
صادر، بيروت – لبنان، ط(1)، 1996م، ج3، ص 4.
تعليقات
إرسال تعليق