سلسلة محاضرات عماد الخطيب في (كيف أنقد):
النّقد
بالمنهج النفسيّ
منقول بتصرّف
النقد عملية وصفية تبدأ بعد عملية الإبداع مباشرة، وتستهدف قراءة
الأثر الأدبي ومقاربته قصد تبيان مواطن الجودة والرداءة، ويميز مواطن الجمال ومواطن
القبح، والطبع من التكلف والتصنيع والتصنع، وللنقد أهمية كبيرة؛ لأنه يوجه دفة الإبداع
ويساعده على النمو والازدهار والتقدم، ويضيء السبيل للمبدعين، ويعرف النقد
-أيضاً -الكتاب و المبدعين بآخر نظريات الإبداع والنقد ومدارسه وتصوراته الفلسفية
والفنية والجمالية، ويجلي لهم طرائق التجديد و يبعدهم عن التقليد.
ولقد تعددت المناهج التي يتكئ عليها النقاد في تقويم النص الأدبي
وتحليله وتفسيره ودراسته، فهناك -على سبيل المثال لا الحصر -المنهج التاريخي
الطبيعي، والمنهج الاجتماعي، والمنهج الجمالي الفني، والمنهج التأثري الذاتي،
والمنهج الفني الموضوعي، والمنهج البنيوي، والمنهج النفسي.
لم المنهج النفسي؟
لما كان لهذا المنهج من أهميةٍ وأثرٍ على النقد، وما دار حوله من
خلاف، وقلة معلوماتي عنه؛ رغبت في تناول هذا المنهج بالبحث والدراسة تحت عنوان:
المنهج النفسي في النقد.
الدراسات السابقة:
تناولت بعض المراجع المناهج النقدية الحديثة بعامة، ككتاب النقد
الأدبي الحديث قضاياه مناهجه، لصالح هويدي، وكتاب مناهج النقد المعاصر، لصلاح فضل،
وكتاب النقد الأدبي الحديث أسسه الجمالية ومناهجه المعاصرة، للدكتور سعد أبوالرضا.
مفهومه وأهميته:
المنهج النفسي النقدي في أبسط تعريفاته هو: «ذلك المنهج الذي يخضع النص الأدبي للبحوث النفسية، ويحاول الانتفاع من النظريات النفسية في تفسير الظواهر الأدبية، والكشف عن عللها وأسبابها ومنابعها الخفية وخيوطها الدقيقة، وما لها من أعماق وأبعاد وآثار ممتدة» ([1]
وتكمن أهميته بالنسبة للنقد الأدبي في أنه مظلة واسعة تندرج تحتها عدة مسارات هامة، منها: النمو الإنساني من الطفولة إلى الرشد، وعملية التأويل والتحليل، وكذلك فاعلية الاستشفاء والعلاج، وعلى الرغم من إمكانية فصل هذه المسارات؛ فإنها تعود فتجتمع وتشتبك الشخصية الفردية بالإطار الثقافي والاجتماعي، فلا تقتصر نظرية علم النفس على خصوصية شخصية محددة، بل هي تحاول دائماً ربط الخصوصية بعواملها الإنسانية والمادية والزمانية، ومن ثم ربطها بالإطار الأسري والاجتماعي والثقافي والحضاري ([2]
نشأته:
ولم يكن التراث النقدي العربي القديم ليخلو من تلك النظرات الحاذقة التي تدل على عميق خبرة بالنفس الإنسانية ومدى تأثرها بالأدب، وعن الروابط المتشابكة والمعقدة التي يمكن أن يقيمها الناقد بين النصوص الأدبية من جانب، وبين بواعثها وأهدافها ووظائفها النفسية لدى المبدع ولدى المتلقي من جانب آخر ([4]
فكان ابن قتيبة ([5]
فإن في تحديد ابن قتيبة لحالات جيشان النفس بالشعر وتدفقه يكشف عن
خبرة بأحوال النفس يصعب على من لم يجربها الوصول إليها.
أما القاضي الجرجاني ([8]
ولعبد القاهر الجرجاني ([10]
ويوافق الماوردي ([12]
أما ابن طباطبا العلوي ( والنفس تسكن إلى كل ما وافق هواها، وتقلق مما يخالفه، ولها أحوال تتصرف بها، فإذا ورد عليها في حالة من حالاتها ما يوافقها اهتزت له وحدثت لها أريحية وطرب، فإذا ورد عليها ما يخالفها قلقت وأستوحشت» (
فنلاحظ مما سبق أنه لم تكن هناك دراسات منهجية نقدية نفسية منسقة في
هذا الإطار.
تطوره في الغرب:
فقد رأى فرويد أن العمل الأدبي موقع أثري له دلالة واسعة، ولابد من كشف غوامضه وأسراره، فالإنسان يبني واقعه في علاقة أساسية مع رغباته المكبوتة ومخاوفه، ويعبر عنها في صورة سلوك أو لغة أو خيال ([17]
وقد كان اهتمام هذا العالم ينصب على تفسير الأحلام؛ باعتباره النافذة التي يطل منها اللاشعور، والطريقة التي تعبر بها الشخصية عن ذاتها، فكان التناظر بين الأحلام من ناحية والفن والأدب من ناحية ثانية مغرياً لاعتبار الفن مظهراً آخر من مظاهر تجلي العوامل الخفية في الشخصية الإنسانية، فقد حدد فرويد خصائص الحلم بمجموعة من الأوصاف، منها: التكثيف ([19]
ماذا انقد في المنهج النفسي؟
العمل الفني والأدبي عند فرويد يتكون من محاولة إشباع الرغبات الأساسية، ولا تكون الرغبةُ رغبةً ما لم يحل بينها وبين الإشباع عائق ما: كالتحريم الديني والحظر الاجتماعي أو السياسي، ولهذا تكون الرغبة حبيسةً تستقر في اللاوعي من عقل الفنان أو الأديب، لكنها تجد لنفسها متنفساً من خلال صيغ محرفة وأقنعة من شأنها أن تخفي طبيعتها الحقيقية ([23]
فالرغبات المقنعة أو المحرفة التي تتضح للوعي تُشكل"المحتوى الظاهر"، أما الرغبات اللاواعية التي تعبر عنها الصيغ المحرفة أو المقنعة فتُشكل"المحتوى الخافي"، فما ينجم - مثلاً - عن النمو الجنسي في مرحلة الطفولة من "ولع أو هاجس" قار، يتجاوزه الطفل حينما يصل مرحلة الرشد، لكنه يبقى في شكل "ثوابت" مستقرة أو محاور كامنة في اللاوعي تثيرها أحداث معينة فيما بعد فتتحقق في صيغ تعبيرية محرفة أو مقنعة ([24]
ويؤكد فرويد على أن مرحلة الطفولة بكل انفعالاتها واضطراباتها تتفاعل في الداخل، وهي التي تحدد سمات شخصية الإنسان، فإذا عانى الطفل شيئاً من الحرمان في هذه المرحلة؛ كانت هي المشكلة لأهم ملامح طريقته في السلوك وفي التصور، فإذا كان هذا الإنسان فيما بعد مبدعاً وشاعراً؛ أصبح محكوماً بجملة تجاربه الطفولية تلك، والمرجعية الحقيقية لما يستخدمه من رموز يوظفها في عمله الإبداعي، وهذا يدفع فرويد إلى القول بأن اللاشعور هو مصدر العملية الإبداعية، والأعمال الإبداعية هي ترجمة لمحتوى مستودع اللاشعور من الرغبات غير المشبعة (عادةً هي بقايا من الدوافع والغرائز الطفولية)، فيعبر عنها بطريقة تتواءم مع أعراف وقوانين المجتمع عن طريق آليات الدفاع من تكثيف وإزاحة ورمز ([25]
وقد عمد فرويد إلى تاريخ الأدب يستمد منه كثيرًا من مقولاته ومصطلحاته في التحليل النفسي، فسمى بعض ظواهر العقد النفسية - مثلاً - بأسماء شخصيات أدبية، مثل عقدة "أوديب"، وعقدة "الكترا" وغيرها، كما لجأ إلى تحليل بعض اللوحات الفنية التشكيلية، وبعض الأعمال الأدبية والشعرية للتدليل على نظرياته في التحليل النفسي ([26]
ولعل فرويد بالغ حينما وصف الأديب بأنه مريض نفسيًّا، وعمله يعكس عقده الجنسية وأمراضه النفسية، وهو هنا يُرجِع العملية الأدبية الإبداعية إلى حالة مرضية، كالعُصاب وانفصام الشخصية وغيرها، وهذا بدوره يدفعنا إلى طرح السؤال التالي: إذا كانت العملية الإبداعية وليدة حالة مرضية يمر بها الأديب، فإذا شفي منها هل سيكف عن الكتابة؟ وهل سيتوقف التدفق الإبداعي؟ وهل كل الأدباء حقاً يعانون أمراضاً نفسية؟ ([27]
ولذلك ظهر علم "نفس الإبداع" في الدراسات النفسية، إذ يجعل التفوق في الإبداع نظير لنوع من العبقرية، ثم يقرن هذه العبقرية بلون من ألوان الجنون، فذروة التفوق في الإبداع توازي ذروة الشذوذ عن النسق السوي للحياة النفسية، ولا يعتمد علم الإبداع على الفروض النظرية البحتة، وإنما يحاول إخضاع المبدعين لمجموعة من الاختبارات والأسئلة المصممة بطريقة منهجية وعلمية، كما يتم إخضاع مسودات الأعمال الإبداعية ذاتها لهذا النوع من التحليل ([28]
وفي ثقافتنا العربية نشأت مدرسة علم "نفس الإبداع"، أسسها "مصطفى سويف" ، صاحب كتاب :"الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة"، وقد كان كتابه هذا بمثابة نقطة الارتكاز الجوهرية لأعمال هذه المدرسة التي تشعبت وتناول تلاميذها باقي الأجناس الأدبية، فكتب "شاكر عبد الحميد" "الأسس النفسية للإبداع الفني في القصة القصيرة"، وكتبت "سامية الملة" "الأسس النفسية للإبداع الفني في المسرح" ([29]
ولم تلبث مدارس علم النفس أن تطورت، ونشأت اتجاهات أخرى كان لها أثرها البالغ في اكتشاف جوانب غير فردية لربط العالم الداخلي بالإبداع الأدبي، من أهمها مدرسة "كارل يونغ" الذي نقل بحثه من اللاشعور الفردي إلى اللاشعور الجماعي، فالشخصية الإنسانية -في نظره -لا تقتصر على حدود تجربتها الفردية، بل تمتد لتستوعب التجربة الإنسانية للجماعة الموغلة في القدم، وأن هذه الشخصية تحتفظ في قرارتها بالنماذج والأنماط العليا التي تختمر في الثقافة الإنسانية عبر الأجيال المختلفة، وتنتقل على شكل رواسب نفسية موروثة عن تجارب الأسلاف، وتدخل هذه النماذج والأنماط في تركيب طريقة التخيل الإنساني، وطريقة الشعور، وفي منظومة القيم، والفاعلية النفسية الإنسانية ([30]
ففي الوقت الذي يتفق فيه "يونغ" مع أستاذه "فرويد" في فكرة اللاشعور؛ نجده يرفض مغالاة أستاذه في تفسير الإبداع الفني في ضوء العقد النفسية، وإيلائها الأهمية الكبرى في حياة الفنان والسلوك الإنساني عامة، فيونغ يرى أن الفنان أهم بكثير، بل ربما لا يمكن مقارنته بمريض الأعصاب، مما أتاح الفرصة لظهور تحليل نفسي جديد للأدب ([31]
فقد جنحت الدراسات التي اعتنقت نظرية "يونغ" في اللاشعور الجمعي نحو تقصي مظاهر النماذج العليا، في الأدب، والفن، والأساطير، والصور الشعرية والأدبية التي يعكسها إبداع هؤلاء الأدباء والفنانين في أعمالهم، بواسطة تلك الرواسب المنحدرة إليهم من أسلافهم، ومحاولة فهمها وتفسيرها في ضوء معرفتها للنماذج الأسطورية والشعائرية للأمم والشعوب ([32]
وكان من أهم النقاد الذين وظفوا نظريات "يونغ" في علم النفس الجماعي في تحليل الأدب: "نورثروب فراي"، فقد عرض في كتابه "تشريح النقد" نظرية إمكانية تفسير الأدب العالمي خاصة في تجلياته في الثقافة الغربية بلغاتها المتعددة ([33]
ثم ظهر تيار نفسي آخر كانت له أهمية خاصة في تحليل الإبداع الأدبي، وهو المتمثل في مدرسة "أدلر" الرمزية، وهي مدرسة تقرن بين الأحلام والرموز بشكل باهر ([34]
وقد رفض "أدلر" تفسير أستاذه "فرويد" للإبداع تعويضًا مقنَّعًا عن كبت جنسي يعاني منه المبدع، وضرباً من ضروب التنفيس في محاولة للتواؤم مع العالم وتفادياً للمرض، مع عدم رفضه لفكرة الدافع الغريزي للإبداع ([35]
فقد كان "أدلر" يرى أن التعلق بالحركة لإثبات الذات هي الدافع والينبوع الأصيل في كل نفسٍ بشرية؛ لأن ذات الإنسان ألصق به من جنسه، وقد طبَّق علماء النفس هذه النظرية على "أدلر" نفسه، فباتوا يراجعون فصول حياته فظهر لهم أنه كان يعاني في طفولته المبكرة آلاماً شديدة من مرض "لين العظام" المعوق للحركة، وكانت آلامه النفسية أشد فأدرك أهمية الجانب الحركي في حياة الإنسان إلى الحد الذي جعله يتخذها مذهباً يدعو إليه ([36]
لقد أتاحت نظرية "أدلر" المجال للدارسين والنقاد الذين تأثروا بها النظر في عاهات المبدعين وعقدهم ونواقصهم، والربط فيما بينها وبين إبداعهم وتفسيرها في ضوء المعرفة المتحصلة عن الأديب أو الفنان ([37]
وكان مدرسة (الجشتالت) أحد الاتجاهات التي بلورت ملامح نظرية متميزة من مدرسة التحليل النفسي الفرويدي، حين قدمت هذه النظرية نفسها في طروحاتها النظرية الأساسية بديلاً منهجياً واضحاً، لاسيما عند ممثلها "هربرت ويلر" ([38]
ولقد سعى الاتجاه الجشتالتي إلى البحث في الكيفية التي يحدث بها العمل الفني، وفي الأثر الكلي الذي يتركه في إدراك متلقي العمل ومتذوقه ([39]
وتجدر الإشارة إلى تيار نفسي آخر أسسه الناقد "شارل مورون" انتهى فيه إلى مصطلح "النقد النفسي"، من خلال تفسير النصوص بعضها ببعض، عن طريق وضع أعمال الأديب فوق بعضها، بغية الكشف عن جمالياتها، فيدرس الناقد هذه الأعمال وتجمعاتها وتطورها حتى يستطيع الوصول إلى الشخصية اللاشعورية للأديب، ثم التأكد من هذه النتائج من خلال حياته ([40]
ثم حدثت نقلة نوعية في منهج النقد المعتمد على المقولات النفسية في منتصف هذا القرن، مع بداية المناهج البنيوية على وجه التحديد، فقد اهتم "جان بياجيه" ـ أحد مؤسسي الفكر البنيوي بعلم نفس الأطفال، وبكيفية تكوِّن اللغة لديهم ([41]
ثم أعلن "لاكان" الفرنسي أحد رواد الفكر البنيوي الربط عبر اللغة بين علم النفس والأدب في منهج شديد التماسك، واعتبر أن اللاشعور مبني بطريقة لغوية، وبذلك يعتبر الأدب أقرب التجليات اللغوية إلى تمثيل هذا اللاوعي، فتصبح بنية اللغة هي المدخل الصحيح للنقد النفسي ([42]
ثم ظهرت ميادين كثيرة في علم النفس، وأخذت تمتد لتشمل دراسة "الذاكرة" وكيفية عملها والقوانين التي تحكم قيامها بوظيفتها، وأصبحت هذه الدراسات تعتمد على جانب فسيولوجي يتمثل في بحث كيفية قيام المخ بوظائفه، وعلى جانب معملي يرتبط بالتجارب التي تجرى على عينات مختارة؛ لاختبار كيفية تلقيها والقوانين الفاعلة في حركة الذاكرة، كل ذلك يصب في فرع جديد يسمى "الذكاء الاصطناعي" من فروع علم النفس التجريبي، وهذا الفرع ذو أهمية بالغة عندما يطبق على النصوص الأدبية؛ لأنها ذات مؤشرات علمية دقيقة لا تشرح لنا كيفية إنشاء النصوص الأدبية، بل تشرح لنا بالدرجة الأولى كيفية تلقي النصوص والاستجابة لها وفهمها ([44]
على ما سبق؛ تلتئم دائرة الدراسات الفنية بحيث لم تعد تقتصر على المرسل، ولم تعد تتجلى في بعض الشذرات المتفرقة في النص، وإنما أخذت تتجه إلى المتلقي، وتشرح كيفية استجابته الذهنية والتحليلية والحسية للأعمال الأدبية، ونوع هذه الاستجابة، وكيفية فهمه لها، وشروط هذا الفهم، وما يدخل تحتها من عوامل تساعد على تحديدها ([45]
المنهج النفسي في العصر
الحديث:
لم يكن النقاد العرب بمعزل عن هذا التأثر، فقد أدلوا بدلوهم في هذا المجال، وأفادوا منه، أمثال النويهي الذي سعى إلى استنباط الخصائص النفسية ومظاهر السلوك المتجلية في أشعار أبي نواس، وقد انتهى إلى تفسير تعقيده بالاضطراب الجسماني المتصل بطبيعة تكوينه، نتيجة لإرهاف في حسه وتوتر في أعصابه، ولرابطة الأمومة الناشئة من تزوج أمه بغير أبيه عقب وفاته؛ مما قاده إلى ضروب من الشذوذ، أبرزها تعلقه بالخمرة وإحساسه نحوها إحساس الولد نحو أمه ([46]
وسعى العقاد في دراسته شخصية أبي نواس إلى تفسير نفسيته في ضوء العقدة المرضية المعروفة بـ"النرجسية"، وهاتين الدراستين تنطلقان من مقولات مدرسة التحليل النفسي الفرويدي ([47]
وقد تمثل المازني في دراسته لبشار بن برد منهج "أدلر" في النقد، فقد أرجع ولوع الشاعر بهجاء الناس وشتمهم إلى عقدة النقص التي يعاني منها بسبب كونه أحد الشعراء الموالي أولاً، وكفيفاً ثانياً، فإن قوة بدنه وسلاطة لسانه أغرتاه بالتماس القوة الأدبية لتعويض عما يحسه، وإشعار الناس بقدرته على البطش المعني في مقابل عجزه الخلقي ([48]
ومن النقاد العرب الذين قدموا دراسات في هذا المجال: العقاد في كتابه: "ابن الرومي، حياته من شعره"، وطه حسين في كتابه: مع أبي العلاء في سجنه"، وأمين الخولي في كتابه: "البلاغة وعلم النفس"، ومحمد خلف الله في كتابه: "من الوجهة النفسية في دراسة الأدب ونقده"، ومصطفى سويف ([49]
المبحث الرابع: نقد المنهج النفسي.
للمنهج النفسي في النقد الأدبي عيوب وجوانب تقصير، من أهمها:
1. أن المنهج النفسي ينظر إلى العمل الأدبي بوصفه وثيقة نفسية؛ مما يؤدي إلى معاملة العمل الأدبي على اختلاف مستوياته معاملة واحدة، فالعمل الأدبي الرديء كالعمل الأدبي الجيد من حيث دلالتهما على مُنشئهما، فلم يعد أساس التفاضل توافرَ قيم جمالية وفنية في هذا العمل، ولا شك أن النتيجة التي تترتب على ذلك هي أن هذا المنهج سيكون تحليلاً نفسياً أكثر منه منهجاً نقدياً ([50]
2. يعتمد المنهج النفسي على كشوفات علم النفس وقوانينه العامة، وهي قوانين وكشوفات لم تزل في إطار الفروض العلمية، وأن من الخطأ الجسيم اتخاذها نتائج يقينية وتطبيقها على النصوص الأدبية تطبيقاً حرفياً، فليس نبوغ الفنان مظهراً من مظاهر مرضه العصابي ([51]
3. إذا كان العمل الإبداعي تحويل لطاقات المبدع في صورة من صور التسامي بغية تحقيق التواؤم مع المجتمع، فإن دافع التعبير عن الذات يمكن أن يكون شرطاً من شروط إنتاج الفن، وربما كانت رغبة المبدع في كسب التأييد الاجتماعي أو سواها من الرغبات الدفينة الأخرى؛ هي البديل الآخر المقبول غير الدافع الجنسي، فليس من الصواب في شيء النظر إلى الفن والأدب على أنه محصلة لنفوس شاذة أو مجموعة من الأعراض المرضية ([52]
تحليل نص في ضوء المنهج
النفسي:
يقول محمود أبو الوفا ([53]
قضى
زماني علي أني |
أمشي،
ورجلاي في القيود |
عبر الشاعر هنا عن عاهته بالقيود، فقد بترت إحدى ساقيه أيام صباه،
وأصبحت العصا بديلاً لها، فكأنما هو أسير، يمشي والقيود في رجليه، فكأنما أصبح
"القيد" الذي تردد كثيراً في أشعاره كالعقدة النفسية التي ظهر أثرها على
إبداعه.
أصبحت
من خوف القيود |
أخاف
وسوسة القلائد |
ترددت كلمة "الخوف" في هذا البيت مرتين، وهي ظاهرة نفسية
معروفة، فخوف الشاعر من "القيود" التي دائماً يعبر بها عن عجزه وعاهته؛
دفعته إلى الفزع من صوت احتكاك القلائد بعضها ببعض ربما لشبهه بصوت احتكاك القيود
والسلاسل، فقد انحرف الخوف الطبيعي إلى خوف مرضي تمثل في الخوف من القلائد وربما
انتقل الخوف ـ أيضاً ـ إلى كل ما يحيط بعضوٍ ما كالقلائد والأساور وغيرها.
أطلقت
نفسي من كل القيود، ولو |
ملكت
حطمتها تحطيم أوثان |
إلا
القيود التي قد صغتها بيـدي |
فإنها
عملي، أو صنع وجداني |
ضاق الشاعر من كل القيود الموجودة، وتمنى أن لو استطاع تحطيمها كلها،
لكنه استثنى قيوده الفنية التي ارتضاها لنفسه،
فنجد لفظة "القيد" تكررت؛ مما يؤكد عقدة الشاعر النفسية من
"العصا" التي أصبحت كالقيد له، فلا تفارقه ولا يستطيع الاستغناء عنها،
فأصبح خوفه وكرهه يشمل كل قيد سوى القيود التي صنعها وجدانه.
لم
أقل غير ما حسـبت مفيداً |
ليت
شعري! هل قلت شيئاً مفيدًا |
فإذا
عشت عشتُ حرًّا ضميري |
مـستريحاً
لما صنعت سعــيداً |
وإذا
مت متُّ حــرًّا؛ لأنـي |
لم
أضف للحياة قيداً جــديداً |
نلاحظ هنا أن غرض القصيدة هو الفخر،إلا أن "القيد" ما زال
ملازماً للقصيدة، فحسب الشاعر فخره بأنه لم يضف للحياة قيداً جديداً، فقد أصبح
"القيد" هنا مجالاً للفخر.
فنستنتج أن الشاعر يعاني من عقدة "القيد" التي يقصد بها
عاهته وملازمة عصاه، فأصبح القيد هو كل ما يراه في هذه الحياة، وترددت في أكثر
قصائده باختلاف أغراضها، حتى أنه عنون قصيدة له بـ"قيود"، ونلاحظ ـ
أيضاً ـ تردد الألفاظ الحركية في قصائده كـ"أمشي" و "رجلاي" و
"أطلقت" و "تحطيم" و "بيدي" و "صنعت"
كأثر لفقدانه حرية الحركة، فجاءت كنتيجة للنقص الذي كان يعانيه الشاعر وعبر عنه
بقوة في قصائده.
وبعد،
أصبحت الدراسات النقدية لا تقتصر على الإبداع، ولا تتوقف عند بعض
مظاهر النص، وإنما تشمل - أيضاً - عمليات التلقي والاستجابة، وتعددت المناهج
ومنها"المنهج النفسي"الذي كانت جذوره متمثلة في آراء أفلاطون وأرسطو وفي
تراثنا النقدي - أيضاً -.
ثم تطور المنهج النفسي ابتداءً من الميدان التحليلي عند
"فرويد"، ثم الميدان الجمعي عند "يونج"، إلى أن بلغ الميدان
التجريبي الجديد المرتبط بالذكاء الاصطناعي، وقد تأثر بهذا المنهج عدد ليس
بالكثير من النقاد في العصر الحديث.
وتظل فائدة المنهج النفسي في النهاية رهنًا بمعرفة الناقد حدود منهجه
النقدي؛ وحدوده أن يفيد من علم النفس ليكون عامل عونٍ على إضاءة العمل الإبداعي
وتعمق أسراره، لا أن يكون العمل الأدبي وثيقة نفسية نستدل منها على مرض المبدع.
المراجع
فهرس الموضوعات
تعليقات
إرسال تعليق