سلسلة نماذج من أبحاث عماد الخطيب في (الأدب ونقده):
الموت والحداثة الشعرية
نقف
الآن مع (سعد البازعي) في كتابه ( جدل التجديد " الشعر السعودي في نصف
قرن") وفيه حديث عن الشاعر (محمد سعيد المسلّم) وقد قال البازعي عن الشاعر
بأن الموت يشكل هاجسًا أساسيًا في كثير من قصائده، ويضرب لذلك مثلا بقصيدة
"بعد الموت" من ديوان "شقق الأحلام" وفيها يقول
الشاعر(المسلم، 1989، ص 30) :
أنا
إن مت ... سوف أبعث حيًا
من
جديد .. على حياة جديدة
وستنشق
ظلمة الليل عن فجر
وتنجاب
عن حياة رغيدة...
ويعبر
الشاعر عن بهجته باكتشاف ابتعاثه بعد الموت، وهو شعور بالطمأنينة لما سيحمله له
الموت، ولكنه شعور بالطمأنينة الممزوجة بالضيق والقلق وهذا قوله(المسلم، 1989، ص
30):
إن
هذا الوجود بحر خضم
قذفتنا
الحياة فوق عبابه
كلنا
عائم على موجه الزاخر
تموج
الآمال عبر سرابه.
ويلفت
البازعي إلى أن الخلاص من الهم – عن الشاعر المسلّم – لا يأتي على شكل أمل متجدد
وتغير ظروف حياة الإنسان، بل يأتي من خلال حياة أخرى تأتي بعد الموت يتوحد فيها
الشاعر بكائنات أخرى على شكل تناسخ(البازعي، 2009، ص 64 – 65)، كما يقول(المسلم،
1989، ص 30):
سر
إلى القبر بعد موتي تجدني
زهرة
فوق غصنها تتبسم
أو
غديرًا ينساب كالنور
رقراقًا،
يغنّي بسرّه ويتمتم.
إن
البازعي يشير إلى فكرة تناسخ متمثل بالعودة إلى الحياة على شكل زهرة أو غدير.. على
أننا نلحظ أن الموت له فعل خلاّق وقوة قاهرة، فرغم أنه قهره في إنهاء حياته، إلا
أنه خلق له عالمًا آخر هو عالم " التناسخ" على حد عبارة البازعي. وما هو
واضح أن الموت عند الشاعر هو المخلص من الحياة التي لا يريدها وهي تجلب له
المعاناة يوما بعد يوم. وتحضر الذات الصارخة عند الشاعر في ختام غريب لقصيدته،
فيقول :
أنا
سر
الحياة
أضمره
الله
وفي
قلبه
أعيش
وأنعم
إن
تكن
بعد
مصرعي
هذه
العقبى
وأفنى
فإنني لست أندم
إنما
عدت للنعيم..
كما
جئت
وقد
طهّرت
كياني
جهنم !
فانتقلت
جهنم – بفعل الشاعر - للدنيا البائسة التي يعيشها، ونجد الآن صورتين: صورة الشاعر
قبل الموت، وصورة الشاعر بعد الموت؛ فقبل الموت دنياه جهنم بائسة، وهي المطهر له،
وبعد الموت سيعود للنعيم الذي خرج أبوه آدم – عليه السلام – منه، ولن يكون لجهنم
نصيب منه؛ لأنه أخذ نصيبه منها في حياته قبل الموت. فجاءت صورة الموت بين حياتين
للشاعر.
كما
يتحدث البازعي عن حضور الموت في قصيدة الشاعر(عبد الله الصيخان) في ديوانه(هواجس
في طقس وطن) حين يصير الموت مصيرًا محتومًا للطفل الذي يبيع الصحف في شارع
المدينة، والصيخان لا يجعلها مأساة مدينة فحسب، بل ينقلها لتصير مأساة وطن بأكمله:
وطن يفرط في أطفاله .. ويعرض لمقطع الصيخان مقارنة مع مقطع الشاعر (أحمد عبد
المعطي حجازي) في قصيدته (مقتل صبيّ) من مجموعته الأولى " مدينة بلا قلب
" وكأنّ البازعي يشير إلى أن إيماءات كثيرة في قصيدة الصيخان للمدينة يجعلها
حجازي بصورة مباشرة نحو ذم المدينة التي تقف باتجاه ضديّ تجاه القرية فيبقى عند –
حجازي – العنصر الوحيد الذي يذكر بالقرية هو ذبابة خضراء حنّت على الصبيّ
القتيل(البازعي، 2009، ص 136 – 137)، وهذا قول حجازي( حجازي، 1973، ص25):
الموت
في
الميدان طنّ
الصمت
حطّ
كالكفن
وأقبلت
ذبابة خضراء
جاءت
من المقابر الريفية الحزينة ...
وواضح
ما قاله حجازي عن الموت ومباشر، في حين أن قصيدة الصيخان على الرغم من السياق
المدني للموت تبرز الريف والبراري أكثر من قصيدة حجازي؛ وهذا راجع – والقول
للبازعي – إلى أن تاريخ المدينة الأطول عمرًا في مصر مقارنة به في المملكة العربية
السعودية(البازعي، 2009، ص138)، اقرأ استحضار الصيخان لصورة موت الطفل(الصيخان،
1988، ص 36):
يسألك
العصفور الدوري الأبيض
هل
كنت مليحًا مثل الصبح
شهيًا
مثل التين
فقيرًا
..
إلا
من ضحكتك الخضراء ؟
هل
كنت تغني حين رماك الموت ؟
فالطفل
واحد من تلك العصافير التي لم تحتمل قسوة المدينة، فمات. وانتماؤه لتلك الوجوه
الجميلة والأصيلة في وطنه، وللقمح والنخل وطين الأرض وكل ما ينفي المدينة ويقع
خارجها وخارج شوارعها(البازعي، 2009، ص 137).
ومن
وقفة التجديد لاستدعاء صورة الموت في الشعر العربي المعاصر، ما جاء في كتاب (سلمان
علوان العبيدي) بعنوان (البناء الفني في القصيدة الجديدة)، وهو يشير إلى (صوفية)
أخرى غير صوفية (المسلم) التي أشار لها (البازعي) في قصيدة للشاعر(محمد مردان) في
ديوان الثالث(الوقوف بين الأقواس)؛ إذ يجتهد مردان في تعميق لغته الصوفية وإثرائها
من خلال تعبيراته الغنائية والرومانسية وهو يستحضر ملحمة (جلجامش) الشهيرة بما
تنطوي على درس أخلاقي ومعرفي كبير في فهم الحياة والموت(العبيدي،2011، ص45)،
فيقول(مردان، 2009، ص 319):
كلي
هوى يجهش بالندى
كلي
أجاج يشتهي الفرات
من
غير أن أنوء،
حمّلت
دمي
نزيف
شطحتي
ثم
انتظرتُ أن يجيء قاتلي
وما
نحرت ناقتي
إلا
لمن خاض البحار
باحثًا
عن نبتة الحياة.
تعليقات
إرسال تعليق